المناهج الأربعة المعتمدة في التفسير[1]
أطلق فريدريخ سافيني[2] مؤسس "المدرسة التاريخية للفقه" المنهج الكلاسيكي المتّبع في التفسير، وذلك في رسالة أصدرها خلال عام 1840 حول القانون الروماني. ووفقاً للتعبيرات الحديثة، ميز سافيني بين التفسير النصي أو البنيوي أو السياقي والتفسير التاريخي. وفي مرحلة لاحقة، تمت إضافة مذهب رابع يتمثل في التفسير الغائي[3] والذي يمكن الاصطلاح على تسميته بالتفسير العملي.
وفي التفسير اللفظي أو النحوي، تُستخدم المناهج الفلسفية لتحليل معنى كلمة معينة أو جملة معينة. أما في التفسير المنهجي، فيحاول المرء أن يوضح معنى حكم قانوني من خلال قراءته مقروناً بأحكام أخرى تنضوي تحت الفصل أو الباب أو النص القانوني ذاته، أو حتى تحت نصوص قانونية أخرى ضمن نظام قانوني ما أو خارجه. ولذلك، يعتمد هذا المنهج على وحدة العالم القانوني، أو على انسجامه وتناغمه على الأقل. وفي التحليل التاريخي، يحاول المفسر أن يحدد ما الذي يريد صائغ الوثيقة القانونية أن ينظمه عند استخدامه لكلمات معينة أو جمل معينة. وهنا، يكتسب الإعلان عن المقاصد – بشقّيْه الخاص والعام – أهمية قصوى لا يستهان بها.
وفي التحليل الغائي، لا يجري إيلاء قيمة كبرى للإرادة التاريخية التي يملكها صائغو الوثيقة القانونية؛ فبدلاً من تخصيص قدر كبير من التركيز على ما أراده هؤلاء الصائغون حينما صاغوا وثيقتهم، لا يتعدى الإفصاح عن مقاصدهم حدود الإيحاء حول الغرض الآنيّ للنص القانوني أو الوثيقة القانونية، وليس تقريره. وينسحب ذات هذا الأمر على التفسير النصي والتفسير المنهجي في التحليل الغائي.
الاختلافات
المدارس الفقهية
1- التفسير النصي
"الذي يقال"
(أ) الاستخدام العام
(ب) الاستخدام القانوني
النصية، الشكلية
2- التحليل السياقي
المنهجي، البنيوي
"الذي يقال"
(أ) السياق القانوني
(ب) السياق الاجتماعي
الوضعية، الأصلية
الواقعية القانونية
3- التحليل التاريخي
"الذي كان يُراد"
(أ) الإرادة الحقيقية
(ب) الإرادة المتنوّرة
التفسيرية، القصدية
4- التحليل الغائي
العملي
(أ) السياسة
(ب) نزاهة الإجراءات
(ت) العدالة الجوهرية
(ث) الاندماج، عدم الخضوع
(ج) النظام، الاستقرار
(ح) الحرية المنظمة
(خ) توسيع نطاق الخيارات
(د) إرضاء المصالح
(ذ) زيادة الثروات
(ر) الضرورة، الصفة العملية
(ز) أمور أخرى
الدراسات القانونية النقدية
الديموقراطية والتمثيل
القانون الطبيعي والنظرية الأخلاقية
الحركة النسوية ونظرية الأعراق
المذهب المحافظ
المجتمعية
الفردية
المذهب النفعي
النظرية الاقتصادية للقانون
المذهب العملي
نظريات جديدة
وحينما يثير جميع أفراد المجتمع مفاهيم من قبيل العدالة والحرية والمساواة وما شابهها، فإن تفسير كل فرد من هؤلاء الأفراد قد يمثل واحداً من عدة وجهات نظر مشروعة حول هذه المُثُل؛ حيث تعتبر وجهات النظر تلك مشَكّلة للحكم ولا تقوّضه. وهذا هو السبب الذي يناضل من أجله المجتمع المتحرر الذي يقر بالمسحة الذاتية لكافة الأحكام الإنسانية ويحميها، أو الذي يناضل على الأقل من أجل ملاحظة أكبر نطاق ممكن من أحكام القيمة في عملية تفسير القوانين.
(2) المذاهب الأنثروبولوجية الأربعة المتكافئة
تستند منهجية البحث إلى إعداد قياس تمثيلي بين مذاهب التفسير الأربعة والمذاهب الأنثروبولوجية الأربعة المتكافئة التي تُفضي إلى نتيجة مفادها أن التفسيرات القانونية والتفسيرات المتعلقة بالجماعة الاجتماعي التي يتعين أخذها بعين الاعتبار في أي فعل من أفعال التفسير.
وتتمثل نقطة البداية في البحث في تحليل الحكم ذي العلاقة وتحليل السياق القانوني الذي يقع فيه. ولكن يتعين التأكيد على النتيجة التفسيرية المتمخضة عن الخطوة الأولى في كل حالة من الحالات أو تقييمها – بمعنى توسيعها أو تضييقها – من خلال اتخاذ خطوات مدروسة إضافية. ويمكن توجيه هذه الخطوات إلى الأمام أو إلى الخلف أو إلى الأعلى أو إلى الأسفل.
وتستند البراهين العلوية إلى مُثُل صريحة أو ضمنية من مُثُل المجتمع، وذلك من قبيل "العدالة للجميع".
أما البراهين الدونية فتعتمد على الضرورة الملموسة التي تفرضها الاحتياجات والمصالح. وبعبارة أبسط، فإننا عندما ننظر نظرة دونية فإن ما نريده هو ما يعنينا. أما إن نظرنا إلى الأعلى، فإن ما نتمكن من توقعه أو ما يتعين علينا توقعه يكتسب أهمية قصوى دون غيره. وتتشابك هذه المذاهب مع العلاقة الارتجاعية والتقدمية للتفسير القانوني: فدائماً ما يعبّر معنى النص والسياق عن التجارب السابقة التي تشكّل هاتان الكلمتان ذاتهما جزءاً منها؛ فالماضي حاضر بصورة ثابتة في معنى هاتين الكلمتين، مع أن الماضي لا يحدد بالضرورة جوهرهما ولا يقيّده. وتكتسب الكلمات أهمية لا متناهية؛ فالتطورات المعاصرة في العالم الواقعي أو في العالم المثالي تشكّل فحواها بحيث يتأكد معه الفهم التقليدي للكلمة أو يتسع أو يضيق بحسبه. إن هذه الاصطلاحات التي تعتبر جديدة في وقتها تصبح جزءاً من ’التقليد‘ الحديث لمعنى الكلمات. هذا المذهب يتطلع إلى الأمام، وتصبح فيه الأهداف والغايات الآنيّة جذوراً أصيلة للإشارة إليه.
إن هذه المذاهب الأربعة هامة ليس بالنسبة للتفسير القانوني فحسب، وإنما بالنسبة للقرارات السياسية التي تؤدي إلى خلق القانون نفسه كذلك. ويكمن الفرق الرئيسي هنا في أن السلطات التشريعية ملزَمة بالدستور والقانون الدستوري وحدهما بحسب ما تفسره المحكمة الدستورية. وفي المقابل، يعتبر القضاة ملزمين أيضاً بكل تشريع لا يخالف القانون الدستوري أو يتعارض معه. ولذلك، فإن الكَمّ الهائل من القيود التي تفرضها الأحكام القانونية أكبر بالنسبة للقضاة منه بالنسبة للمشرعين. وتستطيع السلطات السياسية أن تنظر إلى الخلف و/أو إلى الأمام من أجل تحديد "من نريد أن نكون". وبذلك، يتحتم على المواطنين والسياسيين أن يواجهوا السؤال المتعلق بأي من المثُل التي يجب منحها لهم بالمقارنة مع سياسة المصالح أو سياسة الأحزاب أو المصلحة القومية في الاستجابة للمطالب التي يضعها المجتمع الدولي.
طرق التفسير والأنثروبولوجيا: الحياة السياسية والقانونية
العدالة المطلقة، الواقع العام
"المجتمع المثالي"
التفسير العلوي
التفسير الارتجاعي
تاريخ الحياة السياسية والقانونية
"المجتمع الحقيقي"
الحاضر
القرارات السياسية
الأحكام القضائية
التفسير التقدمي: "من نريد أن نكون."
الغاية – الهدف
التفسير الدوني
"المجتمع الفعلي"
سياسة المصالح الخالصة
سبب الوجود أو مبرره
وأخيراً، يمثل هذا التوصيف الرباعي للتفسير القانوني – التحليل النصي والسياقي الذي يشكل جوهر البراهين العلوية والدونية والتقدمية والارتجاعية – خاصية من خواص القرارات الشخصية؛ وذلك بمعنى التفسيرات التي تنطلي على النفس بناءً على "قراءاتنا" لشخصياتنا (’النص‘) في البيئة الاجتماعية ذات الصلة (’السياق‘). وتبين الأنثروبولوجيا أن الفعل والتفكير الإنسانييْن لا يتحددان بكاملهما من خلال الفطرة؛ وهذا افتراض قائم في النظام القانوني برمّته. وفيما يتعلق بتطور شخصيته، يستطيع الفرد، وبل ويتحتم عليه، أن يعرّف نفسه باعتباره هذا الكائن المتميز أو ذاك؛ ويجب عليه كذلك أن يؤكد أو يشكل احتياجاته ورغباته الحقيقية وإيلاء انتباهه لصياغة فكرة ما حول ’من أريد أن أكون‘. وبحسب الشعار الذي أطلقه إيمانويل كانت، وهو أحد الأنثروبولوجيين الأوائل: "على المرء أن يضبط رغباته وأن يهذبها ويصقلها ويرفع من مستواها الأخلاقي". ويتم إنجاز هذه العملية من التعريف الذاتي في ذات الاتجاه الرباعي من التفكير الارتجاعي والتقدمي والعلوي والدوني.
طرق التفسير والأنثروبولوجيا: الحياة الشخصية
الفضيلة، العدالة المطلقة
"النفس المثالية"
التفسير العلوي
التفسير الارتجاعي
"من أين أتيت"
التاريخ
"النفس الحقيقية"
الحاضر
القرارات الشخصية
التفسير التقدمي: "من أريد أن أكون."
الغاية – الهدف
التفسير الدوني
"النفس الفعلية"
الأنويّة
ولإعادة صياغة هذا المذهب، سأقتبس مصطلحات من عالم النفس الأمريكي ذي الأصل ألماني كارن هورني: عند تعريف المرء لنفسه، يتعين عليه أن يعرّف مزايا شخصيته وخصائصها فيما يتعلق بـ’النفس المثالية‘ (التفسير العلوي)، وتعليمه (التفسير الارتجاعي)، والرغبات التي تحكم الصراعات الطبيعية التي تحيط به (التفسير الدوني)؛ حيث تشكل هذه الخصائص بمجموعها ’النفس الفعلية‘. وبما أننا جميعاً نحيا في حالة دائمة من الحراك ونتقدم إلى الأمام، سواء كان ذلك بمحض اختيارنا أو بدافع الضرورة (بمعنى من خلال التقدم في السن أو الوقوع في براثن المرض أو الواجب الذي يفرض علينا التعامل مع قرارات الآخرين)، فنحن لا نستطيع أن نعرّف أنفسنا دون النظر إلى وجهات النظر التي تتطلع إلى الأمام: من أريد أن أكون أو أصبح؟ ما هو الشكل[4] الذي يجب أن تخرج به شخصيتي؟ وبالإجابة عن هذا السؤال وإعادة الإجابة عنه، فإننا نقوم بتشكيل "أنفسنا الحقيقية" شيئاً فشيئاً.
وبالنتيجة، إذا كان كل مذهب من المذاهب التفسيرية والأنثروبولوجية الأربعة يكتسب أهميته الخاصة وتشكل بمجموعها نسيج المادة التفسيرية، فإننا نكون حينذاك قد عرّفنا ووضحنا وعززنا الرأي المنهجي الأساسي الذي أطلقه سافيني: استخدام المناهج الأربعة في آن معاً. ويجوز الاصطلاح على هذه المقدمة المنطقية بقانون التفسير[5]، مع الحرص على مرونته وبحيث يوجَّه نحو المثال الرئيسي الذي يؤدي إلى تحليل مفهوم لكل من العالمين الحقيقي والقانوني.
ويتمثل أحد الجوانب التي يمكن تحديدها بصورة واضحة في هذا القانون في دحضه لأية فلسفة من فلسفات القانون التي تستند إلى مذهب وحيد من المذاهب الأربعة، أو استبعاد العالم الحقيقي على حساب المثُل الأصيلة التي يتمتع بها العالم القانوني، أو صبغ العالم القانوني بالتفاهة بهدف تعزيز "القضايا الاجتماعية الجيدة" تحت ذريعة التفسير التكنولوجي.
[1] S. Bracker, Kohärenz und Juristische Interpretation, Baden-Baden 2000. F Savigny, Vorlesungen über juristische Methodologie, 1993. Broekman, Recht und Anthropologie, Feiburg 1979.
[2] Friedrich Savigny
[3] وفقاً لمذهب الغائية (Teleology)، يسود اعتقاد بأن كل شيء في الطبيعة مقصود به تحقيق غاية معينة
[4] هذا المفهوم مقتبس من المصطلح الألماني سيكولوجيا الجشتالت (Gestaltspsychologie) (الفهم المتكامل).
[5] Canon of Interpretation
[2] Friedrich Savigny
[3] وفقاً لمذهب الغائية (Teleology)، يسود اعتقاد بأن كل شيء في الطبيعة مقصود به تحقيق غاية معينة
[4] هذا المفهوم مقتبس من المصطلح الألماني سيكولوجيا الجشتالت (Gestaltspsychologie) (الفهم المتكامل).
[5] Canon of Interpretation
No comments:
Post a Comment