Tuesday 10 January 2012

الدولة المدنية وحقوق الإنسان في ظل الثورات العربية

الدولة المدنية وحقوق الإنسان في ظل الثورات العربية

جميل سالم

الجدل الدائر حول مفهوم الدولة المدنية أثار سلسلة من ردود الأفعال في مختلف الدول العربية وبرزت مجموعة متنوعة من الآراء حول هذه المسألة. فالدوائر المحافِظة تنفي احتمال قيام أي تضارب أو تصادم بين مفاهيم الأحزاب والجماعات الدينية والقومية وقواعد الدولة الحديثة ومفاهيم حقوق الإنسان، وهو ما يعني ببساطة دمج مفاهيم أيديولوجية كلاسيكية تعدتها هتافات الشباب والشياب في ميادين التحرير في مختلف الدول العربية مع لغة حقوق الإنسان.


وفي الوقت نفسه باتت بعض الأحزاب الصاعدة تنظر إلى الدولة المدنية وحقوق الإنسان باعتبارها بديلاً عن ‘الدين’ الذي يهدد إحساسهم بهويتهم. وهذا فهم مغلوط في أساسه. ولذلك، ينبغي التوضيح بأن مفهوم الدولة المدنية المبنية على الفصل بين السلطات والمساواة بين المواطنين واحترام كرامة الإنسان لا تمثل المقياس الذي يُستخدم للحكم على الديانات والثقافات أو تقييمها. فالدولة المدنية إنما وُجدت لتقرر الحد الأدنى من الحقوق والحريات والمعايير القانونية والسياسية. وفضلاً عن ذلك، فهذه الحقوق محدودة في نطاقها. وليس هناك ما يدعو للخشية من هذه الفكرة لأن الخطاب الحقوقي لا يستطيع على الإطلاق الإجابة عن المسائل الوجودية المتعلقة بمعنى الحياة وبأسلوب حياة الإنسان.


وفضلاً عن ذلك، رفض أصحاب النظريات الشمولية مفهوم الدولة المدنية المبنية على المساواة وعدم التمييز بين المواطنين بما أن هذه المفاهيم تضرب في جذورها إلى الغرب. يُعتبر هذا التفسير الثقافي لحقوق الإنسان مضلِّلاً، لأن هذه الحقوق تشكل إنجازات تحققت في سياق النزاعات السياسية الطويلة التي تولّدت أثناء العمل على تحديث الفكر الإنساني. وهي لا تشكل، في أي حال من الأحوال، تراثًا أبديًا لموهبة ثقافية أصيلة تقتصر على الغرب. ويفصح الوعي بالتأويلية عن أن حقوق الإنسان لا تضرب جذورها في الأفكار التقليدية الآنف ذكرها، وأن قَدَر هذه الفكرة ومآلها لا يقرره الماضي. ولذلك، تجسّد الفكرة الحديثة لحقوق الإنسان الموقف الذي يستطيع المرء أن يعاود اكتشاف الدوافع الإنسانية بأثر رجعي من خلاله. وبما أن جوهر حقوق الإنسان يكمن في حماية كرامة الإنسان، فإنه يمكن نسبة جذور هذه الحقوق إلى العديد من التقاليد، وليس إلى التقليد الغربي دون غيره.

يمكن القول أن مفهوم الدولة المدنية تعبّر عن فكرة تسعى إلى الاعتراف بكرامة الإنسان ضمن هيكلية ملزِمة من الناحية القانونية. وتشكل هذه الفكرة الحد الأدنى من الحقوق السياسية والقانونية التي ينبغي على الدولة الالتزام بها من أجل الاعتراف بكرامة الإنسان الأصيلة. وهذه الحقوق غير القابلة للتصرف، كالحق في الحياة والحرية والمساواة، لا يمكن التخلي عنها ضمن العقد الاجتماعي الذي دخل فيه الثوار من خلال الشعارات التي أطلقوها في ميادين التحرير المطالبة بالحرية والكرامة والتي أرادوا منها وضع حدّ للظروف الاستثنائية التي فرضتها الأنظمة الديكتاتورية.

ولكن المضامين الواقعية والمفهوم الضيق للمساواة والحقوق والحريات التي يحملها التوجه المحافظ لبعض الحركات السياسية قد يعود بالضرر الجسيم على امتداد ثورة الكرامة إلى دول عربية أخرى وعلى المواطنين في هذه الدول. فبدلاً من التوصل إلى صيغة توفيقية أصيلة، قد يفضي الهدف الذي يرمي إلى أدلجة مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان إلى اعتماد نظرية نسبية قد تطيح بغاية هذا الحوار وهدفه من أساسه. ولذلك، فعوضًا عن تبنّي موقف دفاعي والاحتكام إلى نظرة تقليدية تعوق التقدم والتحول الديمقراطي، ينبغي للتيارات السياسية الصاعدة التعامل مع مسألة حقوق الإنسان بصورة مباشرة. ويجب أن يُستهل النقاش في هذا الشأن بالاعتراف بوجود حاجة ماسة لتناول مسألة المواطنة والحقوق والحريات على نحو صريح وشجاع، ودون أي غموض أو التباس.

ومع ذلك، فلا تقدم الفرضية المحافِظة التي تمثلها بعض التيارات حلاً للمشكلة القائمة أمامنا. فبينما تتبنى هذه الحركات اللغة المعاصرة التي تسبغ حقوق الإنسان، فهي لا تتعرض لنقد مواطن التوتر والخلاف مع الديكتاتورية والشوفينية السائدة في معظم الدول العربية. وفضلاً عن ذلك، يفصح الخطاب الإقصائي حول المساواة بين الناس عن فهم محدود للمساواة بمفهومها العام، ويغفل عن مسائل أساسية من قبيل رفض جميع أشكال التمييز القائم على أساس الجنس أو العرق أو الدين. وهذا يُظهر توجهًا يُقصى فيه أبرز المسائل التي يسود الخلاف والتصادم بشأنها مع الأنظمة الاستبدادية المهيمنة في العالم العربي.

ولذلك، يبدو أن التوجه الذي تتبناه هذه الحركات يفضي إلى أدلجة مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان على نحو سطحي لا يتوخى النقد في أسلوبه. وهذا ينمّ عن مفهوم أيديولوجي من المؤكد أنه لا يقل في صفته الماهِيَّوِيّة عن القراءات "الغربية" أو "المسيحية" الماهيوية لحقوق الإنسان. لقد تسبب هذا المفهوم الإقصائي لحقوق الإنسان في الفكر المحافظ، والتي لم تعمل على إيجاد حل للمشاكل التي تشوبه، في خلق المزيد من العقبات والمعضلات. ونتيجة لذلك، فقد انضمت أصوات جديدة إلى الجدل الدائر حول هذه المسألة في العالم العربي، حيث تصدت لهذه الآراء التبسيطية التي طرحها بعض المحافظون.

ودأبت بعض التيارات الليبرالية واليسارية، في سياق التنبؤات حول مصير مفهوم الدولة المدنية في العالم العربي، على تصوير الخطاب اليميني بأنه لا يتوافق مع الحداثة وقواعد حقوق الإنسان وارتأوا أن مفهوم الدولة المدنية، بسبب أصولها الحديثة، لا تستطيع أن تستنبط معاييرها ومبادئها من التعاليم الغيبية، التي تقع خارج نطاق خبرة الإنسان، ولا من التعاليم الدينية بصورة مباشرة. وفيما يتصل بالخلافات القائمة، يتمحور السؤال الذي يثور في هذا الجانب حول ما إذا كان الممكن التوصل إلى حلول عملية لهذه الخلافات أم لا، وحول الطريقة التي تكفل الوصول إلى هذه الحلول.

وقد برزت حركة شبابية داخل معظم الأحزاب الصاعدة تعترف بضرورة مناقشة مسألة الدولة المدنية وحقوق الإنسان وموقع الدين والشريعة في هذه الدولة، وهي حركة ما تزال تكتسب المزيد من الزخم على الرغم من الأصوات المحافظة المهيمنة التي تسعى إلى وأدها في مهدها. والدعوة إلى ايجاد صيغة جديدة للعلاقة بين السياسة والدين ومفهوم المواطنة وحقوق الإنسان لم تزل قائمة في أوساط المفكرين الذين تعرضوا للتهميش في معظم الدول العربية، والذين دعوا إلى تبني موقف نقدي ذاتي تجاه بعض المفاهيم المتحجرة في العالم العربي.

وقد سبق أن شدد دعاة الإصلاح في العالمين العربي والإسلامي الذين برزوا في مطلع القرن العشرين، من أمثال محمد إقبال في الهند ومحمد عبده في مصر، على الخروج بتفسير حديث لتعاليم الشريعة الإسلامية. ويفترض محمد إقبال ضرورة إعادة بناء الفكر في الإسلام في العصر الحديث من خلال ممارسة الاجتهاد وإعماله في المسائل الشرعية الحديثة. فقد دأب الفقهاء الأوائل على الاحتكام إلى الاجتهاد، بوصفه أداة فقهية، لصياغة التعاليم الكلاسيكية التي انطوت عليها الشريعة الإسلامية.

بل ذهب بعض دعاة الإصلاح إلى أبعد من ذلك عندما أثاروا التساؤل حول الدلالات القانونية الرئيسية التي تنطوي عليها الشريعة. وبالتوازي مع هذا الفكر الناشئ، شدد العديد من المفكرين على أنه يمكن ضمان أقصى قدر من الحماية لكرامة الإنسان في ظل الشريعة الإسلامية إذا ما نُظر إليها على أنها تعبّر عن مبادئ أخلاقية، وليس على أنها تمثل قواعد قانونية جامدة.

وذهب عبد الله أحمد النعيم حتى أبعد من ذلك في المحاولات التي بذلها للخروج بصيغة توفيقية بين تعاليم الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان. وفي سبيل إنجاز الإصلاح المنشود بما يتوافق مع الفرضيات التي يسوقها في أوساط العالم الإسلامي، يشدد النعيم على ضرورة إقامة الدول العلمانية، وهو ما أثار مشكلة أخرى تتعلق بمدى مشروعية الدولة العلمانية في الإسلام. ففي كتابه Islam and the Secular State [الإسلام والدولة العلمانية]، يستعرض النعيم الفرضيات الفقهية الواردة بشأن فصل الدين عن الدولة في إطار تنظيم العلاقة بين الإسلام والسياسة. ويفترض النعيم بأنه بما أن الإسلام يوجه المسلمين لأداء شعائرهم الدينية بناءً على قناعاتهم الذاتية، فلا يجوز للدولة – على غرار ما تمليه هذه القاعدة – أن تفرض الاحتكام إلى الشريعة على رعاياها. وفضلاً عن ذلك، فلا تبدو فكرة الدولة العلمانية غريبة على التاريخ الإسلامي، بل قد تقوض الدولة التي تفرض تطبيق الشريعة الإسلامية سلطتها الدينية، مما يفضي إلى استشراء النفاق فيها. فعلى سبيل المثال، يرى بعض علماء المسلمين أن العقوبة الواجبة للردة عن الإسلام هي الموت على الرغم من أن القرآن لا ينص على هذه العقوبة. ولذلك، فإذا ما فرضت الدولة آراء هؤلاء العلماء، فقد يُضطر بعض المسلمين على مخالفة المعتقدات التي يؤمنون بها، وهو ما يشكل انتهاكًا لحريتهم الشخصية في التدين ويقوض مصداقية الإسلام نفسه وانسجام تعاليمه.

ومن الأهمية بمكان أن نذكر، أن النعيم ليس هو المفكر المعاصر الوحيد الذي دعا إلى تبنّي منهج تأويلي جديد لفهم العلاقة بين الدين والسياسة، على الرغم من وجود قلة ممن يشاركونه في منهجه هذا. فعلى سبيل المثال، ينتقد فضل الرحمن مالك التفسير الشائع للقرآن ويقول بأنه مجتزأ، ومختزَل في مناسبات خاصة وغالبًا ما يحيد عن سياقه. كما يقترح نصر حامد أبو زيد، وهو مفكر من مصر، ضرورة اعتماد منهج تأويلي جديد بغية استعادة روح الهداية التي جاء بها الإسلام وإخضاعها للنقد. وبحسب ما يراه أبو زيد، لا تُعتبر بعض التفاصيل التاريخية جزءًا من الرسالة الأساسية التي جاء بها الإسلام ولا ينبغي أن تشكل عائقًا يقف في طريق الوصول إلى العدالة والمساواة.

وبصرف النظر عن المساهمات الهامة التي أضفتها هذه الحركات التي نسبت نفسها للفقه الإسلامي على حقوق الإنسان، فقد تعرضت هذه الحركات في معظم الأحوال للقمع والتهميش من قبل الأنظمة العربية. وهذه المأساة نتجت عن أفعال البلدان العربية التي تفرض أنظمة مستبدة وتفتقر إلى الشرعية وتوظف اسم الإسلام لإضفاء الصفة الشرعية على الانتهاكات التي توقعها على الحقوق الدستورية ومخالفة الالتزام بحقوق الإنسان. ولكن هذه الأصوات الجديدة التي تبرز في العالم العربي لم تزل تترك بصمتها وأثرها على هذا الجدل الهام، على الرغم من تعرُّضها للتهميش. ويفترض البعض أن هذا يمثل جذوة المقاومة التي تزل مشتعلة، والتي ستفضي إلى العصر الذي يجري فيه إصلاح الفكر الإسلامي.

وفي هذه المرحلة الدقيقة يتوجب على جميع التقدميين والديمقراطيين الأحرار دعم هذه المساعي وتحويلها إلى طريقة يتوافق مؤيدو مختلف المبادئ الشمولية من خلالها على شكل محدد من التنظيم السياسي. وعلى الرغم من أن هذا الإجماع ليس واقعيًّا، وإنما قانونيًا، فهو يفسح المجال للتعددية في المجتمع الحديث. ويتمثل ما نحتاجه في هذه الآونة إلى التركيز على تأمين إجماع متوافق يتميز بتعدد الآراء التي يتألف منها. وبما أن المبادئ الدستورية لدولة الحقوق والحريات لم يتم صياغتها حتى اليوم، فينبغي ‘تشكيل’ هذه المبادئ من خلال المشاركة الدؤوبة في الحوار المتبادل بين مختلف التيارات السياسية.

وعلى الرغم من إمكانية الخروج بنتيجة مفادها أنه يمكن توفير أقصى قدر ممكن من الحماية لفكرة دولة المواطنين واحترام الحقوق والحريات والكرامة والمساواة في ظل نظام ديمقراطي، يتعين الإقرار بأن الديمقراطية لا يمكن أن تزدهر إلا في مجتمع تقبل الغالبية الساحقة من أفراده بفكرة التعددية. وفي هذا الخصوص، يتعين بذل الجهود التي تستهدف رفع مستوى الوعي العام بشأن قضية التعددية في ربوع العالم العربي الثائر، حيث تقع المسؤولية الرئيسية في هذا الجانب على كاهل النخبة المثقفة والجامعات ومراكز الأبحاث والأحزاب السياسية والشباب المعارض.

Bethlehem

Bethlehem