Monday 6 August 2012

عقلانية سيادة القانون: الحالة الفلسطينية - جميل سالم

عادةً ما يسمع المرء، في الخطاب السياسي الفلسطيني، عن إنشاء المؤسسات التي تُعنى بسيادة القانون وبسط سلطانه. ولكن مصطلح ‘سيادة القانون’ ظهر، من الناحية التاريخية، في النظرية القانونية والسياسية باعتباره مفهومًا جدليًا وجد موطئ قدم له في ممارسات الأنظمة الاستبدادية التي تقوم على الحكم المطلق. فقد كان هذا هو الإنجاز الثوري الذي حققه ظهور الطبقة البرجوازية. ويعبّر هذا الواقع عن نفسه في العقلانية الشكلية التي تتأتى عن سيادة القانون. فهذه العقلانية الشكلية تحوّل العلاقات والصراعات الاجتماعية إلى علاقات قانونية من خلال طرح وكفالة الأشكال العامة التي تَسِم التعامل مع بعضها البعض. فمن جانب، كانت هذه العلاقات تستهدف ضمان المنافسة السلمية بين المواطنين عبر أشكال متبادلة لا تنتهج العنف في إدارة الأمور (العقود) والقواعد الشكلية (القوانين) بغية تنظيم الاحتمالات والقيود التي يفرزها السعي إلى إنجاز المصلحة الخاصة. ومن جانب آخر، يكفل مفهوم سيادة القانون التعايش السلمي بين المواطنين والدولة، ولا سيما من خلال الحقوق المدنية، والحق في المشاركة، والفصل بين السلطات، ومن خلال قواعد الإجراءات القانونية والمحاكمات العادلة وغير ذلك من الضمانات القانونية في الإجراءات الجنائية. ويعنى إلزام الأطراف الحاكمة بمبدأ القانونية إلى منع القوى المكلفة بإنفاذ القانون والنظام من التدخل في المجتمع والحياة الخاصة للأفراد على نحو تعسفي واعتباطي وفقًا لما تمليه مقتضيات ‘الحالة’ الراهنة، مثلما كان الزعيم المحلي أو ‘الباشا’ يفعله في قرون خلت.
وتكمّل العقلانية المادية العقلانية الشكلية في سيادة القانون. ولا تكمن الغاية التي تسعى العقلانية المادية إلى إنجازها في الوصول إلى حالة اليقين القانوني، بل تتصل هذه الغاية بالمضمون، ولا سيما في الميدان الاجتماعي والاقتصادي. ويشير الجهاز التي يعتمده نموذج الحكومة التنفيذية، الذي يضمن تقديم الخدمات العامة وتوزيعها، إلى هذا المضمون. ويبرز هذا الأسلوب الحكومي في التدخلات المنهجية التي تمارسها الحكومة في تنظيم الأسواق والإنتاج، وتصويب أوضاع السوق عن طريق توزيع الدخل وإدارة المخاطر وتوزيع الموارد العامة.
ولكن السلطة الفلسطينية لم تتمكن، في ظل إطار اتفاقيات أوسلو والظرف الاستعماري السائد، حتى من مباشرة عملها على إنجاز العقلانية الشكلية. فقد فشل مشروع بناء الدولة وباتت الحالة المتأصلة من انعدام التوافق التي تَسِم مساعي بناء المؤسسات والتحرر جلية في الأزمة القائمة بين النخب السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد وصل الأثر الشامل التي خلّفته السياسة الفلسطينية بين الخيال والانسجام مع الواقع، وبين السعي إلى المثالية ومساعي بناء الدولة، وبين الدفاع والأمر الواقع إلى طريق مسدود يشكّل مصدر تهديد للنخب الحاكمة.
ونتيجة لحالة العقم التي وصلت إليها النخب السياسية في المسعى الذي سلكته للعثور على إجابات للمسائل السياسية والاجتماعية الكبرى، فقد أعدت النخب الحاكمة إجراءات تتجاهل الوعي السياسي المتنامي في أوساط المواطنين، والقلق حول الظروف الاقتصادية والاجتماعية، بيد أن الفئات الحاكمة تنظر، في الوقت ذاته، إلى هذه العوامل باعتبارها ظواهر تهدد وجودها، وهي تعمل على وضع خطط أمنية لوأد هذه التهديدات بأدوات ميكافيلية.
وقد جاءت ردة فعل أصحاب القوة على "التهديدات" المفترضة على شكل التوسع التدريجي في قطاع الأمن وزيادة الموازنة المرصودة له. وضمن هذا الوضع، "تبتكر" النخب الحاكمة في الضفة الغربية وقطاع غزة أساليب حكومية جديدة وتحاول تمريرها من خلال قواعد استثنائية تتسم بغموضها وعموميتها، من أجل خلق صفة شرعية تستند إلى سياسة ترتكز على إدارة الخوف والتهديدات. وتمنح هذه الحالة ‘التي تحاكي الشرعية’ السلطة التنفيذية مزايا خاصة تتيح لها صرف النظر عن القانون النافذ عندما تمارس عملها.
وفي خضم الأزمة الحالية، تقلص مفهوم "سيادة القانون" إلى ذيل في برنامج عمل يستهدف إعداد إجراءات الحكومات التنفيذية (في الضفة الغربية وقطاع غزة)، التي تدعي التأكيد على مصلحة موضوعية مفترضة للمجتمع في مختلف مجالات الحياة وميادينها. ويقدم القطاع الأمني نفسه للمواطنين على أنه قطاع يعي الأمن ويسعى إلى المحافظة على السلم، وذلك في الوقت الذي يكتسب فيه المزيد من الأدوات والصلاحيات التي تمكنه من إنفاذ تدخلاته (التي تستند في جانب منها إلى تشريعات استثنائية)، ناهيك عن التمويل الإضافي الذي يحصل عليه والزيادات المعتبرة التي يشهدها في أعداد أفراده. وعلى النقيض من ذلك، ينبغي في الحريات المدنية الواجبة للأفراد أن تتراجع وتتخذ موقعًا متأخرًا. فتوضع هذه الحريات، لغايات المحافظة على سلامة من يحظون بها ولغايات الأمن بصفة عامة، ‘رهن التوقيف والاحتجاز’ بالمعنى السياسي. ومن ثم يظهر المجتمع في مظهر تشكيل يتسم بالأنا العليا السيادية، ‘الدولة’، التي تملك رقاب الأفراد والجماعات والمنظمات التي تتحمل المسؤولية عن التصريحات والأعمال التي تصدر عنها.
في ظل هذا السيناريو، يحظى الدفاع عن القاعدة "الليبرالية" التي يستند إليها مفهوم سيادة القانون، وبصرف النظر عن الانتقاد الذي يوجَّه إليه، بصفة مستعجلة ملحة. لأن سيادة القانون، مهما كانت محدودة، ما تزال تتفوق في الأمان الذي توفره على "السيادة" التي تتجاوز القانون أو لا تجد سندًا لها في القانون.

Bethlehem

Bethlehem