Friday 28 December 2012

الدين والدولة علاقة جدلية عبر محطات تاريخية مختلفة - جميل سالم ونرمين صيام

بات من المعروف حجم الصراع الذي دار حول تاريخ الدين في الغرب، وحول العلاقة بين رجال الدين ونفوذهم المطلق على مناحي الحياة المختلفة، وبين تيارات التحرر من هذه الهيمنة الدينية القسرية، والتي أفضت الى المناداة بفصل الدين عن الدولة أو ما يسمى "بالعلمانية".
 
 
والناظر لعدد من التوجهات الفكرية حول علاقة الدين بالدولة أو علاقته بالسياسة، يراها خليطًا من التوجهات المختلفة والتي لم تحسم الى عصرنا هذا، حيث برز تيار تقليدي ينادي ويعتقد بضرورة سيطرة وهيمنة الدين على الدولة، بجعله المصدر الأساسي والذي يسمو على باقي القوانين الحياتية، وتيار آخر علماني ديمقراطي ذهب الى ضرورة التخلص من هيمنة الدين على الدولة والفصل بينهما، واستقر الرأي العام لدى مفكري الغرب على ضرورة أن تخضع الكنيسة للدولة وأن تلتزم السلطة الروحية بقوانين السلطة الزمنية، بالمقابل على الدولة أن لا تتدخل في شؤون الكنيسة كما ذهب إلى ذلك توماس هوبز وروسو وغيرهم.
وخلصت العديد من الدراسات الى أن العلاقة بين الدولة والجماعات الدينية باتت تشكل أحد أهم القضايا الشائكة في أي مجتمع، حيث أن توظيف الدين سياسيًا من قبل الدولة سيدفعها حتمًا إلى التصادم مع توجهات هذه التيارات الدينية وأهدافها، ويزداد الأمر تشابكًا إذا كان الدين يحتل موقعًا هامًا في المجتمع، وخاصة بعد إجتياح ظاهرة العلمنة العديد من دول العالم، والتي أفرزت أنماط حكم وتيارات دينية متنوعة تتفاوت في إعمالها لقاعدة أن المجتمعات التي تسودها نزعة ديمقراطية لا بد أن تسودها بالضرورة ميل إلى فصل الدين عن الدولة، بغض النظر عن واقع حقوق الإنسان المغاير الذي قد تعيشه هذه الدول.
 
تُمثِل هذه الورقة بمثابة مراجعة لأهم الأدبيات التي تناولت موضوع علاقة الدين بالدولة، فهي دراسة استعراضية لواقع هذه العلاقة وأنماط تشكلها المختلفة.
وعلى الرغم من أن العلاقة القائمة بين الدساتير وحقوق الإنسان والإسلام استقطبت اهتمام العديد من فقهاء القانون، فإن الجدل الذي تناول هذه القضية أثار مسائل نظرية وعملية لم تزل بحاجة إلى سبر غورها والإجابة عنها. وحيث يتبنى العالم ما بعد الحداثي مجموعة متعددة ومتنوعة من الآراء ووجهات النظر حول العلاقة بين الدساتير وحقوق الإنسان والشريعة الإسلامية، فسوف تسعى هذه الورقة في إلى الوقوف على الأبعاد ووجهات النظر المختلفة التي تحوم حول هذه المسألة وإلى البحث عن قاعدة مشتركة في خضمّ هذا التنوع والتعدد، وتجنُّب التصادم بين المدارس والمذاهب السائدة في هذا المجال.
تنبع أهمية هذه الورقة من تركيزها على إشكالية دور الدين في السياسة وعلاقته مع الدولة وأثره على منظومة حقوق الانسان وصياغتها وتضمينها بالدساتير الحديثة، وذلك في ظل التغيرات والتحولات السياسية والقانونية التي تعيشها الدول العربية إبان ثورات "الربيع العربي"، موضحين التحديات التي تعيشها هذه الدول في أيامنا هذه على المستوى القانوني والسياسي والديني، وخاصة أن الخطاب الديني أصبح له حضور واضح في المجال العام في هذه الدول إبان الثورة، مشيرين الى سبب القلق الذي يثيره هذا الحضور على المستوى السياسي والاجتماعي والدستوري، من خلال توضيح المؤشرات والتداعيات التي ترسم مستقبل مسيرة هذه الدول نحو التحول الديمقراطي المنشود، محاولين تفسير آثار تضمين الشريعة في الدستور وجعلها المصدر الرئيسي للتشريع والتوافق الذي يحققه مع منظومة حقوق الانسان المحلية والدولية.
تندرج ورقة البحث هذه ضمن ثلاثة محاور. يستعرض المحور الأول منها السياق التاريخي لنشوء العلمانية، من خلال استعراض تطور هذه الظاهرة خلال محطات تاريخية مختلفة أدت الى التغيير من سماتها وأنماطها. ويتضمن المحور الثاني تحليلاً للمواقف التي يتبناها مختلف الباحثين حول العلاقة السائدة أو المتخيلة بين حقوق الإنسان والشريعة الإسلامية، والذين يتفاوتون في آرائهم من المحافظين التقليديين إلى أصحاب المبادئ الإنسانية في العالمين العربي والإسلامي. ويتطرق المحور الثالث الى إشكالية العلاقة بين الدين والدولة وانعكاسها على الدساتير ومسودة الدستور الفلسطيني. وتستشرف خاتمة هذه الورقة محاولة لإستكشاف إمكانية إيجاد صيغة توفيقية بين الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان من خلال إعادة تقييم وجهات النظر والآراء السائدة حول هذه المسألة.
 
سيتم نشر الورقة في بداية العام 2013 في كتاب حول الدين وحقوق الإنسان والتحولات الدستورية في العالم العربي.


 


Thursday 27 December 2012

إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام: وثيقة بديلة أم تكميلية؟

هل يشكل إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام بديلاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أم أنه مجرد وثيقة تكمّله وتسهم في تعزيز فهم الإعلان لحقوق الإنسان وتضيف بعدًا جديدًا للحوار الدائر حول حقوق الإنسان والإسلام.
يفترض البعض أن إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام يقوض الصفة العالمية التي تكتسبها حقوق الإنسان الدولية بحسب ما ينص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وللوقوف على هذه المزاعم، نستعرض فيما يلي تحليلاً للأحكام التي يشملها إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام.
تبنت جميع الدول الإسلامية تقريبًا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان باستثناء المملكة العربية السعودية. ومع مرور الوقت، أدركت البلدان الإسلامية ضرورة التأكيد على هويتها الثقافية والدينية على الساحة الدولية. وقد نشأ هذا الإدراك في ضوء استشراء المواقف المتشائمة الذي سادت العالم الإسلامي تجاه القانون الدولي بصفة عامة وحقوق الإنسان بصفة خاصة.
وحيث باتت البلدان الإسلامية أكثر وعيًا بقضية حقوق الإنسان، اعتمدت 45 دولة من الدول الأعضاء في منظمة مؤتمر العالم الإسلامي إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام في يوم 5 آب/أغسطس 2008. وأضحى هذا الإعلان يشكل ‘توجيهًا للدول الأعضاء في المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان’. فقد دعت إيران، وبدعم من عدة دول إسلامية أخرى، إلى قبول الإعلان المذكور باعتباره بديلاً عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وذلك في المؤتمر الدولي حول حقوق الإنسان الذي انعقد في فينّا خلال العام 1993. وقد تم تحقيق هذا الهدف بصورة جزئية في العام 1997 عندما أدرج مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان هذا الإعلان في خاتمة كتاب "حقوق الإنسان: مجموعة صكوك دولية، الجزء الثاني، صكوك إقليمية" (نيويورك وجنيف، 1997، مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، جنيف).
ويتخذ إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام، في كل فقرة من فقرات ديباجته وفي كل مادة من مواده الخمس والعشرين، الفلسفة الإسلامية قاعدة يرتكز عليها ويعتمدها كمصدر من المصادر التي يستقي منها أحكامه. فعلى سبيل المثال، تنص المادتان (24)[1] و(25)[2] من هذا الإعلان على أن جميع الحقوق والحريات الأخرى الممنوحة بموجب التشريعات المحلية أو القانون الدولي مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية. ويبدو أن التباسًا يشوب إعلان القاهرة في المواضع التي يتطرق فيها إلى الدين الإسلامي وأحكام الشريعة، حيث يقر بجملة من الحقوق ‘في إطار الشريعة’ (المادة 12)، أو يجعل من ممارستها أمرًا مباحًا ‘بالطرق الشرعية’ (المادة 15) أو بالطرق التي لا تتنافى مع أحكام الشريعة (المادة 16).
ولذلك، يعبّر الإعلان عن بعض الأحكام، كما جاء في المادة (10) التي تتناول حرية الوجدان، بطريقة تؤكد على أن حرية المرء لا يجوز أن تحيد عن الإسلام، حيث يقرر أن الإسلام هو دين الفطرة.[3] ومع أن الإعلان ينص على حرية التعبير عن الرأي في المادة (22) منه، فهو يفرض القيود من خلال نص هذه المادة نفسها، حيث تقرر أنه "لكل إنسان الحق في التعبير بحرية عن رأيه بشكل لا يتعارض مع المبادئ الشرعية".[4] وفضلاً عن ذلك، لا يشير الإعلان في أحكامه، من قريب أو بعيد، إلى المساواة بين المسلمين وغير المسلمين. ومع أن مسألة المساواة بين الرجل والمرأة، التي تذكرها المادة (6)، تنص على أن "المرأة مساوية للرجل في الكرامة الإنسانية"، فهذا لا يعني بالضرورة أنهما متساويان في الحقوق. ولذلك، يبقى موقف الإعلان تجاه قضية المساواة بين المرأة والرجل يلفه الغموض والضبابية.
اذا تمعنا في أحكام إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام التي ذكرناها أعلاه فان هذا الإعلان يقيد ويحجّم بعض الحقوق التي يقررها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وعلاوةً على ذلك، يبدو أن إعلان القاهرة يقوض الصفة العالمية التي تكتسبها حقوق الإنسان الدولية بتقريره تقييدها بأحكام الشريعة الإسلامية. وقد افترض البعض أن هذا الوضع يعطي القارئ انطباعًا بأن إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام يُعَدّ بديلاً عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
يمثل إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام، في جوهره، بيانًا مرجعيًا تحركه دوافع سياسية من جانب الدول الإسلامية للدلالة على أنها تملك وثيقة لحقوق الإنسان كذلك. وينظر الكثيرون إلى هذا الإعلان على أنه يشكل ردًا على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولهيمنة الغرب على خطاب حقوق الإنسان. ومع ذلك، فمن الجدير بالذكر أنه على الرغم من أن جميع الدول الأعضاء في منظمة مؤتمر العالم الإسلامي صادقت على إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام، فهو لا يأخذ في عين الاعتبار التنوع في الآراء التي يزخر العالم الإسلامي بها. بل يفترض البعض أن هذا الإعلان يمثل وجهة النظر المحافظة التي ترى ‘أسلمة’ حقوق الإنسان. ومن المعقول، بناءً على هذه الفرضية، مقاومة أي محاولة تُبذل لمنح وضع متساوٍ لإعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.



[1]  المادة (24) من إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام.
[2] المادة (25) من إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام.
[3]  المادة (10) من إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام.
[4]  المادة (22) من إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام.


Monday 6 August 2012

عقلانية سيادة القانون: الحالة الفلسطينية - جميل سالم

عادةً ما يسمع المرء، في الخطاب السياسي الفلسطيني، عن إنشاء المؤسسات التي تُعنى بسيادة القانون وبسط سلطانه. ولكن مصطلح ‘سيادة القانون’ ظهر، من الناحية التاريخية، في النظرية القانونية والسياسية باعتباره مفهومًا جدليًا وجد موطئ قدم له في ممارسات الأنظمة الاستبدادية التي تقوم على الحكم المطلق. فقد كان هذا هو الإنجاز الثوري الذي حققه ظهور الطبقة البرجوازية. ويعبّر هذا الواقع عن نفسه في العقلانية الشكلية التي تتأتى عن سيادة القانون. فهذه العقلانية الشكلية تحوّل العلاقات والصراعات الاجتماعية إلى علاقات قانونية من خلال طرح وكفالة الأشكال العامة التي تَسِم التعامل مع بعضها البعض. فمن جانب، كانت هذه العلاقات تستهدف ضمان المنافسة السلمية بين المواطنين عبر أشكال متبادلة لا تنتهج العنف في إدارة الأمور (العقود) والقواعد الشكلية (القوانين) بغية تنظيم الاحتمالات والقيود التي يفرزها السعي إلى إنجاز المصلحة الخاصة. ومن جانب آخر، يكفل مفهوم سيادة القانون التعايش السلمي بين المواطنين والدولة، ولا سيما من خلال الحقوق المدنية، والحق في المشاركة، والفصل بين السلطات، ومن خلال قواعد الإجراءات القانونية والمحاكمات العادلة وغير ذلك من الضمانات القانونية في الإجراءات الجنائية. ويعنى إلزام الأطراف الحاكمة بمبدأ القانونية إلى منع القوى المكلفة بإنفاذ القانون والنظام من التدخل في المجتمع والحياة الخاصة للأفراد على نحو تعسفي واعتباطي وفقًا لما تمليه مقتضيات ‘الحالة’ الراهنة، مثلما كان الزعيم المحلي أو ‘الباشا’ يفعله في قرون خلت.
وتكمّل العقلانية المادية العقلانية الشكلية في سيادة القانون. ولا تكمن الغاية التي تسعى العقلانية المادية إلى إنجازها في الوصول إلى حالة اليقين القانوني، بل تتصل هذه الغاية بالمضمون، ولا سيما في الميدان الاجتماعي والاقتصادي. ويشير الجهاز التي يعتمده نموذج الحكومة التنفيذية، الذي يضمن تقديم الخدمات العامة وتوزيعها، إلى هذا المضمون. ويبرز هذا الأسلوب الحكومي في التدخلات المنهجية التي تمارسها الحكومة في تنظيم الأسواق والإنتاج، وتصويب أوضاع السوق عن طريق توزيع الدخل وإدارة المخاطر وتوزيع الموارد العامة.
ولكن السلطة الفلسطينية لم تتمكن، في ظل إطار اتفاقيات أوسلو والظرف الاستعماري السائد، حتى من مباشرة عملها على إنجاز العقلانية الشكلية. فقد فشل مشروع بناء الدولة وباتت الحالة المتأصلة من انعدام التوافق التي تَسِم مساعي بناء المؤسسات والتحرر جلية في الأزمة القائمة بين النخب السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد وصل الأثر الشامل التي خلّفته السياسة الفلسطينية بين الخيال والانسجام مع الواقع، وبين السعي إلى المثالية ومساعي بناء الدولة، وبين الدفاع والأمر الواقع إلى طريق مسدود يشكّل مصدر تهديد للنخب الحاكمة.
ونتيجة لحالة العقم التي وصلت إليها النخب السياسية في المسعى الذي سلكته للعثور على إجابات للمسائل السياسية والاجتماعية الكبرى، فقد أعدت النخب الحاكمة إجراءات تتجاهل الوعي السياسي المتنامي في أوساط المواطنين، والقلق حول الظروف الاقتصادية والاجتماعية، بيد أن الفئات الحاكمة تنظر، في الوقت ذاته، إلى هذه العوامل باعتبارها ظواهر تهدد وجودها، وهي تعمل على وضع خطط أمنية لوأد هذه التهديدات بأدوات ميكافيلية.
وقد جاءت ردة فعل أصحاب القوة على "التهديدات" المفترضة على شكل التوسع التدريجي في قطاع الأمن وزيادة الموازنة المرصودة له. وضمن هذا الوضع، "تبتكر" النخب الحاكمة في الضفة الغربية وقطاع غزة أساليب حكومية جديدة وتحاول تمريرها من خلال قواعد استثنائية تتسم بغموضها وعموميتها، من أجل خلق صفة شرعية تستند إلى سياسة ترتكز على إدارة الخوف والتهديدات. وتمنح هذه الحالة ‘التي تحاكي الشرعية’ السلطة التنفيذية مزايا خاصة تتيح لها صرف النظر عن القانون النافذ عندما تمارس عملها.
وفي خضم الأزمة الحالية، تقلص مفهوم "سيادة القانون" إلى ذيل في برنامج عمل يستهدف إعداد إجراءات الحكومات التنفيذية (في الضفة الغربية وقطاع غزة)، التي تدعي التأكيد على مصلحة موضوعية مفترضة للمجتمع في مختلف مجالات الحياة وميادينها. ويقدم القطاع الأمني نفسه للمواطنين على أنه قطاع يعي الأمن ويسعى إلى المحافظة على السلم، وذلك في الوقت الذي يكتسب فيه المزيد من الأدوات والصلاحيات التي تمكنه من إنفاذ تدخلاته (التي تستند في جانب منها إلى تشريعات استثنائية)، ناهيك عن التمويل الإضافي الذي يحصل عليه والزيادات المعتبرة التي يشهدها في أعداد أفراده. وعلى النقيض من ذلك، ينبغي في الحريات المدنية الواجبة للأفراد أن تتراجع وتتخذ موقعًا متأخرًا. فتوضع هذه الحريات، لغايات المحافظة على سلامة من يحظون بها ولغايات الأمن بصفة عامة، ‘رهن التوقيف والاحتجاز’ بالمعنى السياسي. ومن ثم يظهر المجتمع في مظهر تشكيل يتسم بالأنا العليا السيادية، ‘الدولة’، التي تملك رقاب الأفراد والجماعات والمنظمات التي تتحمل المسؤولية عن التصريحات والأعمال التي تصدر عنها.
في ظل هذا السيناريو، يحظى الدفاع عن القاعدة "الليبرالية" التي يستند إليها مفهوم سيادة القانون، وبصرف النظر عن الانتقاد الذي يوجَّه إليه، بصفة مستعجلة ملحة. لأن سيادة القانون، مهما كانت محدودة، ما تزال تتفوق في الأمان الذي توفره على "السيادة" التي تتجاوز القانون أو لا تجد سندًا لها في القانون.

Friday 6 July 2012

الدراسات الاجتماعية القانونية والتعددية القانونية - جميل سالم

طالما نظر المحامون وفقهاء القانون في الجامعات الغربية إلى القانون باعتباره مهارة فنية بسيطة تهيئ الطلبة وتجهزهم لتقلُّد مناصب وظيفية في المحاكم، ولا سيما كمحامين وقضاة.ولا يعترف سوى قلة من الباحثين بقدرة حقل القانون على الإسهام في العلوم الاجتماعية والإدلاء بدلوه فيها. ففي عدد من كليات الحقوق في الجامعات الأوروبية، مثلاً، لم تنطلق بواكير المبادرات التي عُنيت بإعداد الأبحاث القانونية المتعددة التخصصات والمعارف إلا في العقد السادس من القرن الماضي، وهو ما يمثل تطورًا تدخلت فيه ذاكرة التاريخ الكولونيالي التي وسمت الأقطار الأوروبية وأخذ بيد فقهاء القانون فيها لإدراك مدى تعقيد المؤسسات التي تتولى صياغة القواعد القانونية ووضْعها وتحديد الممارسات التي تنتهجها.

تبني الدراسات الاجتماعية القانونية فرضيتها على أساس جملة من النظريات، كانت إحداها نظرية التعددية القانونية. ومما لا شك فيه أن النجاح الذي حققته هذه النظرية في منتصف القرن العشرين في أوساط علماء الأنثروبولوجيا الذين تخصصوا في دراسة القانون يُعزى إلى ردة الفعل التي أبداها الباحثون المعنيون تجاه نظرية مركزية القانون التي استحوذت على الجامعات وعلى غيرها من المؤسسات الأكاديمية في الغرب وكانت حكرًا عليها في ذلك الوقت. ومع ذلك، تلاشى التأثير الغالب الذي أفرزته نظرية انفراد القانون في أوساط فقهائه بعدما لاحظ الباحثون، الذين درسوا مجتمعات أفريقيا وآسيا، التناقض القائم بين الأنظمة القانونية المركزية المستوردة والتنظيم القائم على أساس تعددي الذي اصطبغت به المجتمعات التي خضعت للاستعمار. وفي أوروبا، ولا سيما في الأنظمة السياسية الموحدة ذاتها، لم يَمضِ وقت طويل حتى اضطُّر الفقهاء إلى الاعتراف بصلاحية الملاحظات التجريبية التي جرى التوصل إليها في الخارج، بحيث باتوا يشددون بعد ذلك على واقع أن مجتمعاتهم تحكمها أنظمة قانونية متعددة أيضًا.

Thursday 21 June 2012

السلطة الشرعية والأمن

السلطة الشرعية هي تلك السلطة التي تحظى بقدر أوفى من الأمن إن كانت توظف عددًا أقل من أجهزة الأمن 
*
*جان بودان، صاحب نظرية السيادة

Tuesday 19 June 2012

الخوف والتخويف (1) - جميل سالم

إذا ما تجذّر الخوف واستفحل بصورة لا يرى المتضررون منه أن هناك متسعًا لهم للمناورة في تصرفاتهم وأعمالهم، ويحجمون بسبب ذلك عن ممارسة الاحتجاج السياسي ولا يفكرون في البدائل الاجتماعية (ناهيك عن التعبير عنها)، تتحول النظرة إلى الخطر إلى خطر بحد ذاته لأن الإحجام عن الاحتجاج العلني، بدافع الخوف، يتيح الفرص أمام أولئك الذين يذيعون الخوف ويبثونه في نفوس الآخرين. فكلما سارع من يعتقدون أنهم يدافعون عن الحقوق والحريات إلى الحياد، فسوف تتمتع المنظمات المتطرفة في المجتمع والسلطات الأمنية بقدر أكبر من الحرية في عملها، وكلما أخفوا أصواتهم في وجه التخويف، فسوف يواجهون عزلة أكبر بين صفوف ‘الأغلبية الصامتة’ – حتى لو كانوا يحفظون أفكارهم الشجاعة في طي السر والكتمان.

Saturday 9 June 2012

Call for Papers: Religion, Human Rights and the Palestinian Draft Constitution

Call for Papers

Research project on

Religion, Human Rights and the Palestinian Draft Constitution:

Lessons of Emerging Arab Democracies for Palestine

Institute of Law, Birzeit University

Of the most important elements constitutions deal with and specify are the type of government and mechanisms for human rights protection. Constitutions of a large number of Arab countries have endorsed Islam as state religion, and given Shari’a a unique status as a source of legislation, while also recognizing, to varying degrees, international human rights. This has always been subject of dispute between secular and religious movements. In the wake of recent revolutions in Arab countries, this has emerged as one of the key and thorny issues in developing constitutions in these countries, as current discussions in neighbouring Arab countries tell.

Recent revolutions have put Islamic, religious movements at the heart of government, and these movements bring with them calls for increased role of Islam in public life. But the same revolutions which brought these movements to power have started with demands for justice, democracy and respect for dignity and human rights. This call solicits papers which shed light on these developments, in an attempt to answer the following core questions:

1. Is the clash inevitable between endorsement of Islam as state religion and source of legislation, and demands for respect for internationally-recognized human rights? How are Arab ‘spring’ countries dealing with this dilemma, what are the prospects for respect for human rights under such scenarios, and what lessons are there for Palestine’s constitution drafting process? Papers could focus on the situation in one Arab ‘spring’ country, or compare the proposed path in more than one country, in each case highlighting the potential of arrangements employed or proposed on furthering (or limiting) enjoyment of human rights.

2. What modalities for the diffusion of state-religion issues have been employed in other countries? What impact did such modalities have on respect for human rights? How relevant (or not) these are for Palestine? This could include a survey of the issues and modalities employed, in any number of countries, and examination of the relevance to our situation.

3. How does the process through which the Palestinian basic law was developed compare to the process through which the draft constitution was produced, including in terms of relevant discussions, trade-offs, and content? To what extent the situation which has developed in the region post Arab ‘spring’ will impact the current constitution drafting process, and what impact it could have on the bill of rights section of the draft constitution? Papers could also examine the impact of different scenarios on a particularly relevant human right (such as the right to equality) or a single piece of legislation (say the criminal law or draft law, or the draft family status law).

Researchers are encouraged to suggest addressing additional questions, or addressing above questions from different angles.

Papers may be selected for presentation during a conference to be organized in Ramallah, and/or Gaza, and may be edited for publication, including in electronic form. Authors of accepted papers will receive an honorarium to cover reasonable expenses.

Important dates:

  • By 15 July 2012: Abstracts in either Arabic or English, no longer than 500 words, should be sent to iol.research@birzeit.edu. Early submission is encouraged. Abstracts will be reviewed as soon as they are received.
  • By 30 September 2012: First drafts, between 5000-8000 words, should be submitted for review.
  • By 30 October 2012: Final drafts should be submitted.
  • Mid November: expected date of the conference, during which selected papers will be presented.
http://www.birzeit.edu/news/23583/news

دعوة إلى تقديم أوراق علمية: الدين وحقوق الإنسان ومسودة الدستور الفلسطيني:

معهد الحقوق، جامعة بيرزيت


دعوة إلى تقديم أوراق علمية

مشروع بحثي حول

الدين وحقوق الإنسان ومسودة الدستور الفلسطيني:

الدروس المستفادة من الأنظمة الديموقراطية الناشئة في الدول العربية


من أهم العناصر التي يعالجها الدستور ويبيّنها نوع الحكم وآلياته فيما يتصل بحماية حقوق الإنسان وصونها. فقد أقرت الدساتير التي يعتمدها عدد كبير من البلدان العربية بالإسلام دينًا للدولة، وأسبغت على الشريعة الإسلامية منزلة فريدة باعتبارها مصدرًا من مصادر التشريع واعترفت – بدرجات متفاوتة – بحقوق الإنسان الدولية في الوقت ذاته. وفي المقابل، لم يفتأ الجدل والخلاف يحتدم حول هذا الأمر بين التيارات العلمانية والدينية. ففي أعقاب الثورات التي شهدتها البلاد العربية، برز هذا الموضوع باعتباره أحد المواضيع الهامة والشائكة في الدساتير التي تعمل هذه البلاد على إعدادها وسنّها، وهو ما يبدو جليًّا في النقاشات التي تدور في الدول العربية المجاورة في هذه الآونة.

لقد أفضت الثورات الحديثة بالحركات الإسلامية والدينية إلى تبوُّء موقع الصدارة في الحكم. وقد جلبت هذه الحركات معها دعوات لتعزيز دور الإسلام وترسيخه في مناحي الحياة العامة. ولكن هذه الثورات، التي أتاحت موطئ قدم لتلك الحركات، استُهلت بالمطالب بإقامة العدل ونشر الديموقراطية واحترام كرامة الإنسان وحقوقه. وفي هذا السياق، تتضمن هذه الورقة دعوة لتقديم أوراق علمية تُلقي الضوء على هذه المستجدات بغية الإجابة عن الأسئلة الجوهرية التالية:

· هل المواجهة حتمية بين الإقرار بالإسلام باعتباره الدين الرسمي للدولة ومصدرًا من مصادر التشريع فيها، والمطالب باحترام حقوق الإنسان المعترَف بها على المستوى الدولي؟ وكيف تتعامل بلدان الربيع العربي مع هذه المعضلة، وما هي آفاق احترام حقوق الإنسان في ظل السيناريوهات القائمة، وما الدروس التي يمكن لصائغي الدستور الفلسطيني الاستفادة منها في هذا الشأن؟ يمكن للأوراق، التي تتطرق إلى هذا الجانب، أن تركز على الوضع القائم في دولة من الدول التي شهدت أحداث الربيع العربي، أو مقارنة المسار المتوقع في أكثر من دولة واحدة، والتركيز في كل حالة من هاتين الحالتين على قدرة الترتيبات القائمة أو المقترحة على تعزيز (أو تقييد) مدى ما يتمتع به الأفراد من حقوق الإنسان.

· ما هي الآليات التي جرى توظيفها لتعميم القضايا المتصلة بالدين والدولة في البلدان الأخرى؟ وما هي الآثار التي أفرزتها هذه الآليات على احترام حقوق الإنسان؟ وما مدى أهمية تلك الآليات (أو انعدام أهميتها) بالنسبة لفلسطين؟ قد ينطوي هذا المحور على استطلاع للقضايا والآليات التي يوظفها عدد من الدول، ودراسة أوجه الالتقاء والترابط بينها وبين حالتنا؟

· ما هي أوجه المقارنة بين الإجراءات التي مر إعداد القانون الأساسي الفلسطيني بها مع الإجراءات التي اعتُمدت في إعداد مسودة الدستور، وذلك من ناحية النقاشات والحلول التوفيقية والمحتوى؟ وإلى أي مدى يؤثر الوضع الذي خلّفته أحداث الربيع العربي التي عمّت المنطقة على الإجراءات الحالية المتبعة في إعداد الدستور، وما الآثار التي يمكن أن تفرزها هذه الأحداث على المواد الناظمة لحقوق الإنسان في مسودة الدستور؟ يمكن أن يتطرق هذا المحور إلى دراسة الآثار التي تفرزها السيناريوهات المختلفة على حق بعينه من حقوق الإنسان (من قبيل الحق في المساواة) أو تشريع من التشريعات (كالقانون الجنائي أو مشروعه، أو مشروع قانون الأسرة).

نشجع الباحثين على اقتراح مسائل إضافية للبحث، أو معالجة المسائل المطروحة أعلاه من زوايا مختلفة.

يمكن اختيار الأوراق بغية عرضها في مؤتمر يُنظَّم في رام الله و/أو غزة. وقد تخضع هذه الأوراق للتحرير والتدقيق لغايات النشر، بما يشمل نشرها في صورة إلكترونية. ويتلقى المؤلفون الذين تُقبل أوراقهم مكافأة لتغطية التكاليف المعقولة التي يتكبدونها في سبيل إعداد أبحاثهم.

تواريخ هامة:

15 تموز/يوليو 2012: تُرسل الملخصات، سواء كانت باللغة العربية أم الإنجليزية، والتي لا يتجاوز عدد الكلمات في الملخص الواحد منها 500 كلمة، إلى عنوان البريد الإلكتروني iol.research@birzeit.edu. نشجع الباحثين على تقديم ملخصاتهم قبل حلول هذا التاريخ. وتخضع الملخصات المقدمة للمراجعة فور استلامها.

30 أيلول/سبتمبر 2012: تقديم النسخ النهائية من الأوراق العلمية، والتي يتراوح عدد كلمات الورقة الواحدة منها بين 5,000 إلى 8,000 كلمة، من أجل مراجعتها.

30 تشرين الأول/أكتوبر 2012: تقديم النسخ النهائية من الأوراق.

منتصف شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2012: التاريخ المتوقع لانعقاد المؤتمر، حيث ستقدَّم الأوراق التي يقع عليها الاختيار فيه.

Friday 30 March 2012

Tuesday 10 January 2012

الدولة المدنية وحقوق الإنسان في ظل الثورات العربية

الدولة المدنية وحقوق الإنسان في ظل الثورات العربية

جميل سالم

الجدل الدائر حول مفهوم الدولة المدنية أثار سلسلة من ردود الأفعال في مختلف الدول العربية وبرزت مجموعة متنوعة من الآراء حول هذه المسألة. فالدوائر المحافِظة تنفي احتمال قيام أي تضارب أو تصادم بين مفاهيم الأحزاب والجماعات الدينية والقومية وقواعد الدولة الحديثة ومفاهيم حقوق الإنسان، وهو ما يعني ببساطة دمج مفاهيم أيديولوجية كلاسيكية تعدتها هتافات الشباب والشياب في ميادين التحرير في مختلف الدول العربية مع لغة حقوق الإنسان.


وفي الوقت نفسه باتت بعض الأحزاب الصاعدة تنظر إلى الدولة المدنية وحقوق الإنسان باعتبارها بديلاً عن ‘الدين’ الذي يهدد إحساسهم بهويتهم. وهذا فهم مغلوط في أساسه. ولذلك، ينبغي التوضيح بأن مفهوم الدولة المدنية المبنية على الفصل بين السلطات والمساواة بين المواطنين واحترام كرامة الإنسان لا تمثل المقياس الذي يُستخدم للحكم على الديانات والثقافات أو تقييمها. فالدولة المدنية إنما وُجدت لتقرر الحد الأدنى من الحقوق والحريات والمعايير القانونية والسياسية. وفضلاً عن ذلك، فهذه الحقوق محدودة في نطاقها. وليس هناك ما يدعو للخشية من هذه الفكرة لأن الخطاب الحقوقي لا يستطيع على الإطلاق الإجابة عن المسائل الوجودية المتعلقة بمعنى الحياة وبأسلوب حياة الإنسان.


وفضلاً عن ذلك، رفض أصحاب النظريات الشمولية مفهوم الدولة المدنية المبنية على المساواة وعدم التمييز بين المواطنين بما أن هذه المفاهيم تضرب في جذورها إلى الغرب. يُعتبر هذا التفسير الثقافي لحقوق الإنسان مضلِّلاً، لأن هذه الحقوق تشكل إنجازات تحققت في سياق النزاعات السياسية الطويلة التي تولّدت أثناء العمل على تحديث الفكر الإنساني. وهي لا تشكل، في أي حال من الأحوال، تراثًا أبديًا لموهبة ثقافية أصيلة تقتصر على الغرب. ويفصح الوعي بالتأويلية عن أن حقوق الإنسان لا تضرب جذورها في الأفكار التقليدية الآنف ذكرها، وأن قَدَر هذه الفكرة ومآلها لا يقرره الماضي. ولذلك، تجسّد الفكرة الحديثة لحقوق الإنسان الموقف الذي يستطيع المرء أن يعاود اكتشاف الدوافع الإنسانية بأثر رجعي من خلاله. وبما أن جوهر حقوق الإنسان يكمن في حماية كرامة الإنسان، فإنه يمكن نسبة جذور هذه الحقوق إلى العديد من التقاليد، وليس إلى التقليد الغربي دون غيره.

يمكن القول أن مفهوم الدولة المدنية تعبّر عن فكرة تسعى إلى الاعتراف بكرامة الإنسان ضمن هيكلية ملزِمة من الناحية القانونية. وتشكل هذه الفكرة الحد الأدنى من الحقوق السياسية والقانونية التي ينبغي على الدولة الالتزام بها من أجل الاعتراف بكرامة الإنسان الأصيلة. وهذه الحقوق غير القابلة للتصرف، كالحق في الحياة والحرية والمساواة، لا يمكن التخلي عنها ضمن العقد الاجتماعي الذي دخل فيه الثوار من خلال الشعارات التي أطلقوها في ميادين التحرير المطالبة بالحرية والكرامة والتي أرادوا منها وضع حدّ للظروف الاستثنائية التي فرضتها الأنظمة الديكتاتورية.

ولكن المضامين الواقعية والمفهوم الضيق للمساواة والحقوق والحريات التي يحملها التوجه المحافظ لبعض الحركات السياسية قد يعود بالضرر الجسيم على امتداد ثورة الكرامة إلى دول عربية أخرى وعلى المواطنين في هذه الدول. فبدلاً من التوصل إلى صيغة توفيقية أصيلة، قد يفضي الهدف الذي يرمي إلى أدلجة مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان إلى اعتماد نظرية نسبية قد تطيح بغاية هذا الحوار وهدفه من أساسه. ولذلك، فعوضًا عن تبنّي موقف دفاعي والاحتكام إلى نظرة تقليدية تعوق التقدم والتحول الديمقراطي، ينبغي للتيارات السياسية الصاعدة التعامل مع مسألة حقوق الإنسان بصورة مباشرة. ويجب أن يُستهل النقاش في هذا الشأن بالاعتراف بوجود حاجة ماسة لتناول مسألة المواطنة والحقوق والحريات على نحو صريح وشجاع، ودون أي غموض أو التباس.

ومع ذلك، فلا تقدم الفرضية المحافِظة التي تمثلها بعض التيارات حلاً للمشكلة القائمة أمامنا. فبينما تتبنى هذه الحركات اللغة المعاصرة التي تسبغ حقوق الإنسان، فهي لا تتعرض لنقد مواطن التوتر والخلاف مع الديكتاتورية والشوفينية السائدة في معظم الدول العربية. وفضلاً عن ذلك، يفصح الخطاب الإقصائي حول المساواة بين الناس عن فهم محدود للمساواة بمفهومها العام، ويغفل عن مسائل أساسية من قبيل رفض جميع أشكال التمييز القائم على أساس الجنس أو العرق أو الدين. وهذا يُظهر توجهًا يُقصى فيه أبرز المسائل التي يسود الخلاف والتصادم بشأنها مع الأنظمة الاستبدادية المهيمنة في العالم العربي.

ولذلك، يبدو أن التوجه الذي تتبناه هذه الحركات يفضي إلى أدلجة مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان على نحو سطحي لا يتوخى النقد في أسلوبه. وهذا ينمّ عن مفهوم أيديولوجي من المؤكد أنه لا يقل في صفته الماهِيَّوِيّة عن القراءات "الغربية" أو "المسيحية" الماهيوية لحقوق الإنسان. لقد تسبب هذا المفهوم الإقصائي لحقوق الإنسان في الفكر المحافظ، والتي لم تعمل على إيجاد حل للمشاكل التي تشوبه، في خلق المزيد من العقبات والمعضلات. ونتيجة لذلك، فقد انضمت أصوات جديدة إلى الجدل الدائر حول هذه المسألة في العالم العربي، حيث تصدت لهذه الآراء التبسيطية التي طرحها بعض المحافظون.

ودأبت بعض التيارات الليبرالية واليسارية، في سياق التنبؤات حول مصير مفهوم الدولة المدنية في العالم العربي، على تصوير الخطاب اليميني بأنه لا يتوافق مع الحداثة وقواعد حقوق الإنسان وارتأوا أن مفهوم الدولة المدنية، بسبب أصولها الحديثة، لا تستطيع أن تستنبط معاييرها ومبادئها من التعاليم الغيبية، التي تقع خارج نطاق خبرة الإنسان، ولا من التعاليم الدينية بصورة مباشرة. وفيما يتصل بالخلافات القائمة، يتمحور السؤال الذي يثور في هذا الجانب حول ما إذا كان الممكن التوصل إلى حلول عملية لهذه الخلافات أم لا، وحول الطريقة التي تكفل الوصول إلى هذه الحلول.

وقد برزت حركة شبابية داخل معظم الأحزاب الصاعدة تعترف بضرورة مناقشة مسألة الدولة المدنية وحقوق الإنسان وموقع الدين والشريعة في هذه الدولة، وهي حركة ما تزال تكتسب المزيد من الزخم على الرغم من الأصوات المحافظة المهيمنة التي تسعى إلى وأدها في مهدها. والدعوة إلى ايجاد صيغة جديدة للعلاقة بين السياسة والدين ومفهوم المواطنة وحقوق الإنسان لم تزل قائمة في أوساط المفكرين الذين تعرضوا للتهميش في معظم الدول العربية، والذين دعوا إلى تبني موقف نقدي ذاتي تجاه بعض المفاهيم المتحجرة في العالم العربي.

وقد سبق أن شدد دعاة الإصلاح في العالمين العربي والإسلامي الذين برزوا في مطلع القرن العشرين، من أمثال محمد إقبال في الهند ومحمد عبده في مصر، على الخروج بتفسير حديث لتعاليم الشريعة الإسلامية. ويفترض محمد إقبال ضرورة إعادة بناء الفكر في الإسلام في العصر الحديث من خلال ممارسة الاجتهاد وإعماله في المسائل الشرعية الحديثة. فقد دأب الفقهاء الأوائل على الاحتكام إلى الاجتهاد، بوصفه أداة فقهية، لصياغة التعاليم الكلاسيكية التي انطوت عليها الشريعة الإسلامية.

بل ذهب بعض دعاة الإصلاح إلى أبعد من ذلك عندما أثاروا التساؤل حول الدلالات القانونية الرئيسية التي تنطوي عليها الشريعة. وبالتوازي مع هذا الفكر الناشئ، شدد العديد من المفكرين على أنه يمكن ضمان أقصى قدر من الحماية لكرامة الإنسان في ظل الشريعة الإسلامية إذا ما نُظر إليها على أنها تعبّر عن مبادئ أخلاقية، وليس على أنها تمثل قواعد قانونية جامدة.

وذهب عبد الله أحمد النعيم حتى أبعد من ذلك في المحاولات التي بذلها للخروج بصيغة توفيقية بين تعاليم الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان. وفي سبيل إنجاز الإصلاح المنشود بما يتوافق مع الفرضيات التي يسوقها في أوساط العالم الإسلامي، يشدد النعيم على ضرورة إقامة الدول العلمانية، وهو ما أثار مشكلة أخرى تتعلق بمدى مشروعية الدولة العلمانية في الإسلام. ففي كتابه Islam and the Secular State [الإسلام والدولة العلمانية]، يستعرض النعيم الفرضيات الفقهية الواردة بشأن فصل الدين عن الدولة في إطار تنظيم العلاقة بين الإسلام والسياسة. ويفترض النعيم بأنه بما أن الإسلام يوجه المسلمين لأداء شعائرهم الدينية بناءً على قناعاتهم الذاتية، فلا يجوز للدولة – على غرار ما تمليه هذه القاعدة – أن تفرض الاحتكام إلى الشريعة على رعاياها. وفضلاً عن ذلك، فلا تبدو فكرة الدولة العلمانية غريبة على التاريخ الإسلامي، بل قد تقوض الدولة التي تفرض تطبيق الشريعة الإسلامية سلطتها الدينية، مما يفضي إلى استشراء النفاق فيها. فعلى سبيل المثال، يرى بعض علماء المسلمين أن العقوبة الواجبة للردة عن الإسلام هي الموت على الرغم من أن القرآن لا ينص على هذه العقوبة. ولذلك، فإذا ما فرضت الدولة آراء هؤلاء العلماء، فقد يُضطر بعض المسلمين على مخالفة المعتقدات التي يؤمنون بها، وهو ما يشكل انتهاكًا لحريتهم الشخصية في التدين ويقوض مصداقية الإسلام نفسه وانسجام تعاليمه.

ومن الأهمية بمكان أن نذكر، أن النعيم ليس هو المفكر المعاصر الوحيد الذي دعا إلى تبنّي منهج تأويلي جديد لفهم العلاقة بين الدين والسياسة، على الرغم من وجود قلة ممن يشاركونه في منهجه هذا. فعلى سبيل المثال، ينتقد فضل الرحمن مالك التفسير الشائع للقرآن ويقول بأنه مجتزأ، ومختزَل في مناسبات خاصة وغالبًا ما يحيد عن سياقه. كما يقترح نصر حامد أبو زيد، وهو مفكر من مصر، ضرورة اعتماد منهج تأويلي جديد بغية استعادة روح الهداية التي جاء بها الإسلام وإخضاعها للنقد. وبحسب ما يراه أبو زيد، لا تُعتبر بعض التفاصيل التاريخية جزءًا من الرسالة الأساسية التي جاء بها الإسلام ولا ينبغي أن تشكل عائقًا يقف في طريق الوصول إلى العدالة والمساواة.

وبصرف النظر عن المساهمات الهامة التي أضفتها هذه الحركات التي نسبت نفسها للفقه الإسلامي على حقوق الإنسان، فقد تعرضت هذه الحركات في معظم الأحوال للقمع والتهميش من قبل الأنظمة العربية. وهذه المأساة نتجت عن أفعال البلدان العربية التي تفرض أنظمة مستبدة وتفتقر إلى الشرعية وتوظف اسم الإسلام لإضفاء الصفة الشرعية على الانتهاكات التي توقعها على الحقوق الدستورية ومخالفة الالتزام بحقوق الإنسان. ولكن هذه الأصوات الجديدة التي تبرز في العالم العربي لم تزل تترك بصمتها وأثرها على هذا الجدل الهام، على الرغم من تعرُّضها للتهميش. ويفترض البعض أن هذا يمثل جذوة المقاومة التي تزل مشتعلة، والتي ستفضي إلى العصر الذي يجري فيه إصلاح الفكر الإسلامي.

وفي هذه المرحلة الدقيقة يتوجب على جميع التقدميين والديمقراطيين الأحرار دعم هذه المساعي وتحويلها إلى طريقة يتوافق مؤيدو مختلف المبادئ الشمولية من خلالها على شكل محدد من التنظيم السياسي. وعلى الرغم من أن هذا الإجماع ليس واقعيًّا، وإنما قانونيًا، فهو يفسح المجال للتعددية في المجتمع الحديث. ويتمثل ما نحتاجه في هذه الآونة إلى التركيز على تأمين إجماع متوافق يتميز بتعدد الآراء التي يتألف منها. وبما أن المبادئ الدستورية لدولة الحقوق والحريات لم يتم صياغتها حتى اليوم، فينبغي ‘تشكيل’ هذه المبادئ من خلال المشاركة الدؤوبة في الحوار المتبادل بين مختلف التيارات السياسية.

وعلى الرغم من إمكانية الخروج بنتيجة مفادها أنه يمكن توفير أقصى قدر ممكن من الحماية لفكرة دولة المواطنين واحترام الحقوق والحريات والكرامة والمساواة في ظل نظام ديمقراطي، يتعين الإقرار بأن الديمقراطية لا يمكن أن تزدهر إلا في مجتمع تقبل الغالبية الساحقة من أفراده بفكرة التعددية. وفي هذا الخصوص، يتعين بذل الجهود التي تستهدف رفع مستوى الوعي العام بشأن قضية التعددية في ربوع العالم العربي الثائر، حيث تقع المسؤولية الرئيسية في هذا الجانب على كاهل النخبة المثقفة والجامعات ومراكز الأبحاث والأحزاب السياسية والشباب المعارض.

Bethlehem

Bethlehem